فصل: تفسير الآيات رقم (56- 57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء السابع والعشرون

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 34‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ‏(‏33‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

علم إبراهيم من محاورتهم فيما ذكر في هذه الآية وما ورد ذكره في آيات أخرى أنهم ملائكة مرسلون من عند الله فسألهم عن الشأن الذي أرسلوا لأجله‏.‏ وإنما سألهم بعد أن قَراهم جرياً على سنة الضيافة أن لا يُسأل الضيف عن الغرض الذي أَورده ذلك المنزلَ إلا بعد استعداده للرحيل كيلا يتوهم سآمة مُضيِّفة من نزوله به، وليعينه على أمره إن كان مستطيعاً، وهم وإن كانوا قد بشروه بأمر عظيم إلا أنه لم يعلم هل ذلك هو قصارى ما جاءوا لأجله‏؟‏

وحكي فعل القول بدون عاطف لأنه في مقاوله محاورة بينه وبين ضيفه‏.‏

والفاء فيما حُكي من كلام إبراهيم فصيحة مؤذنة بكلام محذوف ناشئ عن المحاورَة الواقعة بينه وبين ضيفه وهو من عطف كلام على كلام متكلم آخر ويقع كثيراً في العطف بالواو نحو قوله تعالى حكاية عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏قال ومن ذريتي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال إني جاعلك للناس إماماً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ وقوله حكاية عن نوح‏:‏ ‏{‏قال وما علمي بما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 112‏]‏‏.‏ فإبراهيم خاطب الملائكة بلغته ما يؤدي مثله بفصيح الكلام العربي بعبارة ‏{‏فما خطبكم أيها المرسلون‏}‏‏.‏ وتقدير المحذوف‏:‏ إذ كنتم مرسلين من جانب الله تعالَى فما خطبكم الذي أُرسلتم لأجله‏.‏ وقد علم إبراهيم أن نزول الملائكة بتلك الصورة لا تكون لمجرد بشارته بابن يولد له ولزوجه إذ كانت البشارة تحصل له بالوحي، فكان من عِلم النبوءة أن إرسال الملائكة إلى الأرض بتلك الصورة لا يكون إلا لخطب قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما تنزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذن منظرين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 8‏]‏ والخطب‏:‏ الحدث العظيم والشأن المهمّ، وإضافته إلى ضميرهم لأدنى ملابسة‏.‏

والمعنى‏:‏ ما الخطب الذي أُرسلتم لأجله إذ لا تَنزل الملائكة إلا بالحق‏.‏ وخاطبهم بقوله‏:‏ ‏{‏أيها المرسلون‏}‏ لأنه لا يعرف ما يسميهم به إلا وصف أنهم المرسلون، والمرسلون من صفات الملائكة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمرسلات عرفاً‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 1‏]‏ عن أحد تفسيرين‏.‏

والمراد بالقوم المجرمين أهل سَدوم وعَمُورية، وهم قوم لوط، وقد تقدمت قصتهم في سورة الأعراف وسورة هود‏.‏

والإِرسال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏لنرسل عليهم حجارة من طين‏}‏ مستعمل في الرمي مجازاً كما يقال‏:‏ أرسل سهمه على الصيد، وهذا الإِرسال يكون بعد أن أصعدوا الحجارة إلى الجوّ وأرسلتها عليهم، ولذلك سميت مطراً في بعض الآيات‏.‏

وحصل بين ‏{‏أرسلنا‏}‏ وبين ‏{‏لنرسل‏}‏ جناس لاختلاف معنى اللفظين‏.‏

والحجارة‏:‏ اسم جمع للحجر، ومعنى كون الحجارة من طين‏:‏ أن أصلها طين تحجَّر بصهر النار، وهي حجارة بركانية من كبريت قذفتها الأرض من الجهة التي صارت بحيرة تدعى اليوم بحيرة لوط، وأصعدها ناموس إلهِي بضغط جعله الله يرفع الخارج من البركان إلى الجو فنزلت على قرى قوم لوط فأهلكتهم، وذلك بأمر التكوين بواسطة القوى الملكية‏.‏

والمُسَوّمة‏:‏ التي عليها السُّومة أي العلامة، أي عليها علامات من ألوان تدل على أنها ليست من الحجارة المتعارفة‏.‏

ومعنى ‏{‏عند ربك‏}‏ أن علاماتها بخلق الله وتكوينه‏.‏

والمسرفون‏:‏ المفرطون في العصيان، وذلك بكفرهم وشيوع الفاحشة فيهم، فالمسرفون‏:‏ القوم المجرمون، عدل عن ضميرهم إلى الوصف الظاهر، لتسجيل إفراطهم في الإِجرام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏35‏)‏ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

هذه الجملة ليست من حكاية كلام الملائكة بل هي تذييل لقصة محاورة الملائكة مع إبراهيم، والفاء في ‏{‏فأخرجنا‏}‏ فصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر هو ما ذُكر في سورة هود من مجيء الملائكة إلى لوط وما حدث بينه وبين قومه، فالتقدير‏:‏ فحَلُّوا بقرية لوط فأمرناهم بإخراج من كان فيها من المؤمنين فأخرجوهم‏.‏ وضمير «أخرجنا» ضمير عظمة الجلالة‏.‏

وإسناد الإِخراج إلى الله لأنه أمر به الملائكة أن يبلغوه لوطاً، ولأن الله يسّر إخراج المؤمنين ونجاتهم إذْ أخّر نزول الحجارة إلى أن خرج المؤمنون وهم لوط وأهله إلا امرأته‏.‏

وعبر عنهم ب ‏{‏المؤمنين‏}‏ للإِشارة إلى أن إيمانهم هو سبب نجاتهم، أي إيمانهم بلوط‏.‏ والتعبير عنه ب ‏{‏المسلمين‏}‏ لأنهم آل نبيء وإيمان الأنبياء إِسلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن اللَّه اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏فيها‏}‏ عائد إلى القرية ولم يتقدم لها ذكر لكونها معلومة من آيات أخرى كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وتفريع ‏{‏فما وجدنا‏}‏ تفريع خبر على خبر، وفعل ‏{‏وجدنا‏}‏ معنى علمنا لأن ‏(‏وجد‏)‏ من أخوات ‏(‏ظن‏)‏ فمفعوله الأول قوله‏:‏ ‏{‏من المسلمين‏}‏ و‏(‏من‏)‏ مزيدة لتأكيد النفي وقوله‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ في محل المفعول الثاني‏.‏

وإنما قال‏:‏ ‏{‏فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين‏}‏ دون أن يقول‏:‏ فأخرجنا لوطاً وأهل بيته قصداً للتنويه بشأن الإِيمان والإِسلام، أي أن الله نجّاهم من العذاب لأجل إيمانهم بما جاء به رسولهم لا لأجل أنهم أهل لوط، وأن كونهم أهل بيت لوط لأنهم انحصر فيهم وصف ‏{‏المؤمنين‏}‏ في تلك القرية، فكان كالكلي الذي انحصر في فرد معين‏.‏

والمؤمن‏:‏ هو المصدق بما يجب التصديق به‏.‏ والمسلم المنقاد إلى مقتضى الإِيمان ولا نجاة إلا بمجموع الأمرين، فحصل في الكلام مع التفنن في الألفاظ الإِشارة إلى التنويه بكليهما وإلى أن النجاة باجتماعهما‏.‏

والآية تشير إلى أن امرأة لوط كانت تظهر الانقياد لزوجها وتضمر الكفر وممالأة أهل القرية على فسادهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب اللَّه مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 10‏]‏ الآية، فبيت لوط كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين فلذلك لم ينج منهم إلا الذين اتصفوا بالإِيمان والإِسلام معاً‏.‏

والوجدان في قوله‏:‏ ‏{‏فما وجدنا‏}‏ مراد به تعلّق علم الله تعالى بالمعلوم بعد وقوعه وهو تعلق تنجيزي، ووجدان الشيء إدراكه وتحصيله‏.‏

ومعنى ‏{‏وتركنا فيها آية‏}‏‏:‏ أن القرية بقيت خراباً لم تعمر، فكان ما فيها من آثار الخراب آية للذين يخافون عذاب الله، قال تعالى في سورة الحجر ‏(‏76‏)‏

‏{‏وإنها لبسبيل مقيم‏}‏ أو يعود الضمير إلى ما يؤخذ من مجموع قوله‏:‏ ‏{‏قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 32‏]‏ على تأويل الكلام بالقصة، أي تركنا في قصتهم‏.‏

والترك حقيقته‏:‏ مفارقة شخص شيئاً حصل معه في مكان ففارق ذلك المكان وأبقى منه ما كان معه، كقول عنترة‏:‏

فتركتُه جَزر السباع ينُشْنَه ***

ويطلق على التسبب في إيجاد حالة تطول، كقول النابغة‏:‏

فلا تتركَنّي بالوعيد كأنني *** إلى الناس مطليُّ به القارُ أجرب

بتشبيه إبقاء تلك الحالة فيه بالشيء المتروك في مكان‏.‏ ووجه الشبه عدم التغير‏.‏

والترك في الآية‏:‏ كناية عن إبقاء الشيء في موضع دون مفارقة التارك، أو هو مجاز مرسل في ذلك فيكون نظير ما في بيت النابغة‏.‏

و ‏{‏الذين يخافون العذاب‏}‏ هم المؤمنون بالبعث والجزاء من أهل الإِسلام وأهل الكتاب دون المشركين فإنهم لما لم ينتفعوا بدلالة مواقع الاستئصال على أسباب ذلك الاستئصال نُزلت دلالة آيتِه بالنسبة إليهم منزلةَ ما ليس بآية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فذكر بالقرآن من يخاف وعيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الذين يخافون اتعظوا بآية قوم لوط فاجتنبوا مثلَ أسباب إهلاكهم، وأن الذين أشركوا لا يتعظون فيوشك أن ينزل عليهم عذاب أليم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وفي موسى‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فيها آية‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 37‏]‏‏.‏

والتقدير‏:‏ وتركنا في موسى آية، فهذا العطف من عطف جملة على جملة لتقديرِ فعل‏:‏ تَركْنا، بعد واوِ العطف، والكلام على حذف مضاف أي في قصة موسى حين أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى الخ، فيكون الترك المقدر في حرف العطف مراداً به جعل الدلالة باقية فكأنها متروكة في الموضع لا تنقل منه كما تقدم آنفاً في بيت عنترة‏.‏

وأعقب قصة قوم لوط بقصة موسى وفرعون لشهرة أمر موسى وشريعته، فالترك المقدر مستعمل في مجازيه المرسل والاستعارة‏.‏ وفي الواو استخدام مثل استخدام الضمير في قول معاوية بن مالك الملقب معوِّد الحكماء ‏(‏لقبوه به لقوله في ذكر قصيدته‏)‏‏:‏

أعَوِّد مثلها الحكماء بعدي *** إذا ما ألحق في الحدثان نابا

إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا

والمعنى‏:‏ أن قصة موسى آية دائمة‏.‏ وعقبت قصة قوم لوط بقصة موسى وفرعون لما بينهما من تناسب في أن العذاب الذي عذب به الأُمّتان عذاب أرضي إذ عذب قوم لوط بالحجارة التي هي من طين، وعذب قوم فرعون بالغرق في البحر، ثم ذكر عاد وثمود وكان عذابهما سماوياً إذ عذبت عاد بالريح وثمود بالصاعقة‏.‏

والسلطان المبين‏:‏ الحجة الواضحة وهي المعجزات التي أظهرها لفرعون من انقلاب العصا حية، وما تلاها من الآيات الثمان‏.‏

والتولي حقيقته‏:‏ الانصراف عن المكان‏.‏ والركن حقيقته‏:‏ ما يعتمد عليه من بناء ونحوه، ويسمى الجسدُ ركناً لأنه عماد عمل الإِنسان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فتولى بركنه‏}‏ تمثيل لهيئة رفضه دعوة موسى بهيئة المنصرف عن شخص‏.‏ وبإيرادِ قوله‏:‏ ‏{‏بركنه‏}‏ تَمَّ التمثيل ولولاه لكان قوله‏:‏ ‏{‏تولى‏}‏ مجرد استعارة‏.‏

والباء للملابسة، أي ملابساً ركنه كما في قوله‏:‏ ‏{‏أعرض ونأى بجانبه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 83‏]‏‏.‏

والمليم‏:‏ الذي يجعل غيره لائماً عليه، أي وهو مذنب ذنباً يلومه الله عليه، أي يؤاخذه به‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه مستوجب العقاب كما قال‏:‏ ‏{‏فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن في قصة موسى وفرعون آيةً للذين يخافون العذاب الأليم فيجتنبون مثل أسباب ما حل بفرعون وقومه من العذاب وهي الأسباب التي ظهرت في مكابرة فرعون عن تصديق الرسول الذي أرسل إليه، وأن الذين لا يخافون العذاب لا يؤمنون بالبعث والجزاء لا يتعظون بذلك لأنهم لا يصدقون بالنواميس الإِلهية ولا يتدبرون في دعوة أهل الحق فهم لا يزالون مُعرضين ساخرين عن دعوة رسولهم متكبرين عليه، مُكابرين في دلائل صدقه، فيوشك أن يحل بهم من مثل ما حلّ بفرعون وقومه، لأن ما جاز على المثل يجوز على المماثل، وقد كان المسلمون يقولون‏:‏ إن أبا جهل فِرعون هذه الأمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ‏(‏41‏)‏ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ‏(‏42‏)‏‏}‏

نظم هذه الآية مثل نظم قوله‏:‏ ‏{‏وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 38‏]‏ انتقل إلى العبرة بأمة من الأمم العربية وهم عاد وهم أشهر العرب البائدة‏.‏

و ‏{‏الريح العقيم‏}‏ هي‏:‏ الخليّة من المنافع التي تُرجى لها الرياح من إثارة السحاب وسوقه، ومن إلقاح الأشجار بنقل غبرة الذكر من ثمار إلى الإِناث من أشجارها، أي الريح التي لا نفع فيها، أي هي ضارّة‏.‏ وهذا الوصف لما كان مشتقاً مما هو من خصائص الإِناث كان مستغنياً عن لحاق هاء التأنيث لأنها يُؤتى بها للفرق بين الصنفين‏.‏ والعرب يكرهون العقم في مواشيهم، أي ريح كالناقة العقيم لا تثمر نسلاً ولا دَرًّا، فوصف الريح بالعقيم تشبيه بليغ في الشؤم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو يأتيهم عذاب يوم عقيم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم‏}‏ صفة ثانية، أو حال، فهو ارتقاء في مضرة هذا الريح فإنه لا ينفع وأنه يضر أضراراً عظيمة‏.‏

وصيغ ‏{‏تذر‏}‏‏:‏ بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة‏.‏ و‏{‏شيء‏}‏ في معنى المفعول ل ‏{‏تذر‏}‏ فإن ‏(‏مِن‏)‏ لتأكيد النفي والنكرة المجرورة ب ‏(‏من‏)‏ هذه نص في نفي الجنس ولذلك كانت عامة، إلا أن هذا العموم مخصص بدليل العقل لأن الريح إنما تُبلي الأشياء التي تمر عليها إذا كان شأنها أن يتطرق إليها البِلى، فإن الريح لا تُبلي الجبال ولا البحار ولا الأودية وهي تمر عليها وإنما تُبلي الديار والأشجار والناس والبهائم، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تدمر كل شيء بأمر ربها‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏جعلته كالرميم‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏الريح‏}‏ مستثناة من عموم أحوال ‏{‏شيء‏}‏ يبين المعرف، أي ما تذر من شيء أتت عليه في حال من أحوال تدميرها إلا في حال قد جعلته كالرميم‏.‏

والرميم‏:‏ العظم الذي بلِي‏.‏ يقال‏:‏ رَمَّ العظم، إذ بَلى، أي جعلتْه مفتتاً‏.‏

والمعنى‏:‏ وفي عاد آية للذين يخافون العذاب الأليم إذ أرسل الله عليهم الريح‏.‏ والمراد‏:‏ أن الآية كائنة في أسباب إرسال الريح عليهم وهي أسباب تكذيبهم هوداً وإشراكهم بالله وقالوا‏:‏ ‏{‏من أشد منا قوة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏، فيحذر من مثل ما حلّ بهم أهل الإِيمان‏.‏ وأما الذين لا يخافون العذاب الأليم من أهل الشرك فهم مصرّون على كفرهم كما أصرت عاد فيوشك أن يحلّ بهم من جنس ما حلّ بعاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 45‏]‏

‏{‏وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ‏(‏43‏)‏ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏44‏)‏ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

أتبعت قصة عاد بقصة ثمود لتقارنهما غالباً في القرآن من أجل أن ثمود عاصرت عاداً وخَلفتها في عظمة الأمم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عَاد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 74‏]‏ ولاشتهارهما بين العرب‏.‏

و ‏{‏في ثمود‏}‏ عطف على ‏{‏في عاد‏}‏ أو على ‏{‏تركنا فيها آية‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ وتركنا آية للمؤمنين في ثمود في حال قد أخذتهم الصاعقة، أي في دلالة أخذ الصاعقة إياهم، على أن سببه هو إشراكهم وتكذيبهم وعتوّهم عن أمر ربهم، فالمؤمنون اعتبروا بتلك فسلكوا مسلك النجاة من عواقبها، وأما المشركون فإصرارهم على كفرهم سيوقعهم في عذاب من جنس ما وقعت فيه ثمود‏.‏

وهذا القول الذي ذكر هنا هو كلام جامع لما أنذرهم به صالح رسولهم وذكّرهم به من نحو قوله‏:‏ ‏{‏وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 74‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أتتركون فيما ها هنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 146 148‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏‏.‏ ونحو ذلك مما يدل على أنهم أعطوا ما هو متاع، أي نفع في الدنيا فإن منافع الدنيا زائلة، فكانت الأقوال التي قالها رسولهم تذكيراً بنعمة الله عليهم يجمعها ‏{‏تمتعوا حتى حين‏}‏، على أنه يجوز أن يكون رسولهم قال لهم هذه الكلمة الجامعة ولم تُحك في القرآن إلا في هذا الموضع، فقد علمتَ من المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير أن أخبار الأمم تأتي مُوزعة على قصصهم في القرآن‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏تمتعوا‏}‏ أمر مستعمل في إباحة المتاع‏.‏ وقد جعل المتاع بمعنى النعمة في مواضع كثيرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏إن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 111‏]‏‏.‏

والمراد ب ‏{‏حين‏}‏ زمن مبهم، جعل نهاية لما مُتّعوا به من النعم فإن نعم الدنيا زائلة، وذلك الأجل‏:‏ إما أن يراد به أجل كل واحد منهم الذي تنتهي إليه حياته، وإمّا أن يراد به أجل الأمة الذي ينتهي إليه بقاؤها‏.‏ وهذا نحو قوله‏:‏ ‏{‏يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 3‏]‏ فكما قاله الله للناس على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لعله قاله لثمود على لسان صالح عليه السلام‏.‏

وليس قوله‏:‏ ‏{‏إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين‏}‏ بمشير إلى قوله في الآية الأخرى ‏{‏فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏ ونحوه لأن ذلك الأمر مستعمل في الإِنذار والتأييس من النجاة بعد ثلاثة أيام فلا يكون لقوله بعده‏:‏ ‏{‏فعتوا عن أمر ربهم‏}‏ مناسبة لتعقيبه به بالفاء لأن الترْتيب الذي تفيده الفاء يقتضي أن ما بعدها مرتب في الوجود على ما قبلها‏.‏

والعتوّ‏:‏ الكِبر والشدة‏.‏ وضمن «عَتَوْا» معنى‏:‏ أَعرضوا، فعدي ب ‏(‏عن‏)‏، أي فأعرضوا عما أمرهم الله على لسان رسوله صالح عليه السلام‏.‏

وأخذ الصاعقة إياهم إصابتها إياهم إصابة تشبه أخذ العدوّ عدوه‏.‏

وجملة ‏{‏وهم ينظرون‏}‏ حال من ضمير النصْب في ‏{‏أخذتهم‏}‏، أي أخذتهم في حال نظرهم إلى نزولها، لأنهم لما رأوا بوارقها الشديدة علموا أنها غير معتادة فاستشرفوا ينظرون إلى السحاب فنزلت عليهم الصاعقة وهم ينظرون، وذلك هول عظيم زيادة في العذاب فإن النظر إلى النقمة يزيد صاحبها ألماً كما أن النظر إلى النعمة يزيد المنعم مسرّة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وقرأ الكسائي ‏{‏الصعقة‏}‏ بدون ألف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فما استطاعوا من قيام‏}‏ تفريع على ‏{‏وهم ينظرون‏}‏، أي فما استطاعوا أن يدفعوا ذلك حين رؤيتِهم بوادرَه‏.‏ فالقيام مجاز للدفاع كما يقال‏:‏ هذا أمر لا يقوم له أحد، أي لا يدفعه أحد‏.‏ وفي الحديث «غَضِب غضباً لا يقوم له أحد» أي فما استطاعوا أيّ دفاع لذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا منتصرين‏}‏ أي لم ينصرهم ناصر حتى يكونوا منتصرين لأن انتصر مطاوع نصر، أي ما نصرهم أحد فانتصروا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور ‏{‏وقوم‏}‏ بالنصب بتقدير ‏(‏اذكر‏)‏، أو بفعل محذوف يدلّ عليه ما ذكر من القصص قبله، تقديره‏:‏ وأهلكنا قوم نوح، وهذا من عطف الجُمل وليس من عطف المفردات‏.‏

وقرأه أبُو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلَف بالجر عطفاً على ‏{‏ثمود‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 43‏]‏ على تقدير‏:‏ وفي قوم نوح‏.‏

ومعنى ‏{‏من قبل‏}‏ أنهم أهلكوا قبل أولئك فهم أول الأمم المكذبين رسولهم أهلكوا‏.‏

وجملة ‏{‏إنهم كانوا قوماً فاسقين‏}‏ تعليل لما تضمّنه قوله‏:‏ ‏{‏وقوم نوح من قبل‏}‏‏.‏ وتقدير كونهم آية للذين يخافون العذاب‏:‏ من كونهم عوقبوا وأن عقابهم لأنهم كانوا قوماً فاسقين‏.‏

وأخر الكلام على قوم نوح لما عرض من تجاذب المناسبات فيما أورد من آيات العذاب للأمم المذكورة آنفاً بما علمته سابقاً‏.‏ ولذلك كان قوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ تنبيهاً على وجه مخالفة عادة القرآن في ترتيب حكاية أحوال الأمم على حسب ترتيبهم في الوجود‏.‏ وقد أومأَ قوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ إلى هذا ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى وثمودا فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50 52‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

لما كانت شبهة نفاة البعث قائمة على توهم استحالة إعادة الأجسام بعد فنائها أعقب تهديدهم بما يقوض توهمهم فوُجه إليه الخطاب يُذكرهم بأن الله خلق أعظم المخلوقات ولم تكن شيئاً فلا تعدّ إعادة الأشياء الفانية بالنسبة إليها إلاّ شيئاً يسيراً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏‏.‏

وهذه الجملة والجمل المعطوفة عليها إلى قوله‏:‏ ‏{‏إني لكم منه نذير مبين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 51‏]‏ معترضة بين جملة ‏{‏وقوم نوح من قبل‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 46‏]‏ الخ وجملة ‏{‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52‏]‏ الآية‏.‏

وابتدئ بخلق السماء لأن السماء أعظم مخلوق يشاهده الناس، وعطف عليه خلق الأرض عطفَ الشيء على مخالفه لاقتران المتخالفين في الجامع الخيالي‏.‏ وعطف عليها خلق أجناس الحيوان لأنها قريبة للأنظار لا يكلف النظرُ فيها والتدبر في أحوالها ما يرهق الأذهان‏.‏

واستعير لخلق السماء فعل البناء لأنه منظر السماء فيما يبدو للأنظار شبيه بالقبة ونصب القبة يُدعى بناءً‏.‏

وهذا استدلال بأثر الخلق الذي عاينوا أثره ولم يشهدوا كيفيته، لأن أثره ينبئ عن عظيم كيفيته، وأنها أعظم مما يتصور في كيفية إعادة الأجسام البالية‏.‏

والأَيْد‏:‏ القوة‏.‏ وأصله جَمع يد، ثم كثر إطلاقه حتى صار اسماً للقوة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر عبدنا داود ذا الأيد‏}‏ في سورة ص ‏(‏17‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ بنيناها بقدرة لا يقدر أحد مثلها‏.‏

وتقديم ‏{‏السماء‏}‏ على عامله للاهتمام به، ثم بسلوك طريقة الاشتغال زاده تقوية ليتعلق المفعول بفعله مرتين‏:‏ مرة بنفسه، ومرة بضميره، فإن الاشتغال في قوة تكرر الجملة‏.‏ وزيد تأكيده بالتذييل بقوله‏:‏ ‏{‏وإنا لموسعون‏}‏‏.‏ والواو اعتراضية‏.‏

والمُوسِع‏:‏ اسم فاعل من أوسع، إذا كان ذا وُسع، أي قدرة‏.‏ وتصاريفه جائية من السَّعة، وهي امتداد مساحة المكان ضد الضيق، واستعير معناها للوفرة في أشياء مثل الأفراد مثل عمومها في ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏، ووفرة المال مثل ‏{‏لينفق ذو سعة من سعته‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏على الموسع قدره‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏، وجاء في أسمائه تعالى الواسع ‏{‏إن اللَّه واسع عليم‏}‏‏.‏ وهو عند إجرائه على الذات يفيد كمال صفاته الذاتية‏:‏ الوجودِ، والحياة، والعلم، والقدرة، والحكمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللَّه واسع عليم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏ ومنه قوله هنا‏:‏ ‏{‏وإنا لموسعون‏}‏‏.‏

وأكد الخبر بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر سعة قدرة الله تعالى، إذ أحالوا إعادة المخلوقات بعد بِلاها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

القول في تقديم ‏{‏الأرض‏}‏ على عامله، وفي مجيء طريقة الاشتغال كالقول في ‏{‏والسماء بنيناها‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وكذلك القول في الاستدلال بذلك على إمكان البعث‏.‏

من دقائق فخر الدين‏:‏ أن ذكر الأمم الأربع للإِشارة إلى أن الله عذّبهم بما هو من أسباب وجودهم، وهو التراب والماء والهواء والنار، وهي عناصر الوجود، فأهلك قوم لوط بالحجارة وهي من طين، وأهلك قوم فرعون بالماء، وأهلك عاداً بالريح وهو هواء، وأهلك ثموداً بالنار‏.‏

واستغنى هنا عن إعادة ‏{‏بأييد‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏ لدلالة ما قبله عليه‏.‏

والفرش‏:‏ بسط الثوب ونحوه للجلوس والاضطجاع، وفي ‏{‏فرشناها‏}‏ استعارة تبعية، شبه تكوين الله الأرضَ على حالة البسط بفرش البساط ونحوه‏.‏

وفي هذا الفرش دلالة على قدرة الله وحكمته إذ جعل الأرض مبسوطة لمَّا أراد أن يجعل على سطحها أنواع الحيوان يمشي عليها ويتوسدُها ويضطجع عليها ولو لم تكن كذلك لكانت مُحدودبة تؤلم الماشي بَلْهَ المتوسد والمضطجع‏.‏

ولما كان في فرشها إرادة جعلها مَهداً لمن عليها من الإِنسان أتبع ‏{‏فرشناها‏}‏ بتفريع ثناء الله على نفسه على إجادة تمهيدها تذكيراً بعظمته ونعمته، أي فنعم الماهدون نحن‏.‏

وصيغة الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏الماهدون‏}‏ للتعظيم مثل ضمير الجمع في ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وروعي في وصف خلق الأرض ما يبدو للناس من سطحها لأنه الذي يهم الناس في الاستدلال على قدرة الله وفي الامتنان عليهم بما فيه لطفهم والرفق بهم، دون تعرض إلى تكويرها إذ لا يبلغون إلى إدراكه، كما روعي في ذكر السماء ما يبدو من قبة أجوائها دون بحث عن ترامي أطرافها وتعدد عوالمها لمثل ذلك‏.‏ ولذلك أتبع الاعتراض بالتذييل بقوله‏:‏ ‏{‏فنعم الماهدون‏}‏ المراد منه تلقين الناس الثناء على الله فيما صنع لهم فيها من مِنَّةٍ ليشكروه بذلك الثناء كما في قوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

لما أشعر قوله‏:‏ ‏{‏فرشناها فنعم الماهدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 48‏]‏ بأن في ذلك نعمة على الموجودات التي على الأرض، أُتبع ذلك بصفة خلق تلك الموجودات لما فيه من دلالة على تفرد الله تعالى بالخلق المستلزم لتفرده بالإِلهية فقال‏:‏ ‏{‏ومن كل شيء خلقنا زوجين‏}‏ والزوج‏:‏ الذكر والأنثى‏.‏ والمراد بالشيء‏:‏ النوع من جنس الحيوان‏.‏ وتثنية زوج هنا لأنه أريد به ما يُزوج من ذكر وأنثى‏.‏

وهذا الاستدلال عليهم بخلق يشاهدون كيفياته وأطواره كلما لفتوا أبصارهم، وقَدحوا أفكارهم، وهو خلق الذكر والأنثى ليكون منهما إنشاء خلق جديد يخلف ما سلفه وذلك أقرب تمثيل لإِنشاء الخلق بعد الفناء‏.‏ وهو البعث الذي أنكروه لأن الأشياء تقرّب بما هو واضح من أحوال أمثالها‏.‏

ولذلك أتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏، أي تتفكرون في الفروق بين الممكنات والمستحيلات، وتتفكرون في مراتب الإِمكان فلا يختلط عليكم الاستبعاد وقلة الاعتياد بالاستحالة فتتوهموا الغريب محالاً‏.‏

فالتذكر مستعمل في إعادة التفكر في الأشياء ومراجعة أنفسهم فيما أحالوه ليعلموا بعد إعادة النظر أن ما أحالوه ممكن ولكنهم لم يألفوه فاشتبه عليهم الغريب بالمحال فأحالوه فلما كان تجديد التفكر المغفول عنه شبيهاً بتذكر الشيء المنسي أطلق عليه ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏‏.‏ وهذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 60 62‏]‏ فقد ذُيل هنالك بالحث على التذكر، كما ذيل هنا برجاء التذكر، فأفاد أن خلق الذكر والأنثى من نطفة هو النشأة الأولى وأنها الدالة على النشأة الآخرة‏.‏

وجملة ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏خلقنا زوجين‏}‏ أي رجاء أن يكون في الزوجين تذكر لكم، أي دلالة مغفول عنها‏.‏ والقول في صدور الرجاء من الله مبين عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏52‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

بعد أن بين ضلال هؤلاء في تكذيبهم بالبعث بياناً بالبرهان الساطع، ومثَّل حالهم بحال الأمم الذين سلفوهم في التكذيب بالرسل وما جاءوا به جمعاً بين الموعظة للضالين وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وكانت فيما مضى من الاستدلال دلالة على أن الله متفرد بخلق العالم وفي ذلك إبطال إشراكهم مع الله آلهة أخرى أقبل على تلقين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يستخلصه لهم عقب ذلك بأن يدعوهم إلى الرجوع إلى الحق بقوله‏:‏ ‏{‏ففروا إلى الله‏}‏ فالجملة المفرعة بالفاء مقول قول محذوف والتقدير‏:‏ فقل فرّوا، دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏إني لكم منه نذير مبين‏}‏ فإنه كلام لا يصدر إلا من قائل ولا يستقيم أن يكون كلام مبلغ‏.‏ وحذف القول كثير الورود في القرآن وهو من ضُروب إيجازه، فالفاء من الكلام الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم ومفادها التفريع على ما تقرر مما تقدم‏.‏ وليست مُفرِّعة فعل الأمر المحذوف لأن المفرع بالفاء هو ما يذكر بعدها‏.‏

وقد غُير أسلوب الموعظة إلى توجيه الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم هذه الموعظة لأن لتعدد الواعظين تأثيراً على نفوس المخاطبين بالموعظة‏.‏

والأنسب بالسياق أن الفرار إلى الله مستعار للإِقلاع عن ما هم فيه من الإِشْراك وجحود البعث استعارة تمثيلية بتشبيه حال تورطهم في الضلالة بحال من هو في مكان مخوف يدعو حاله أن يفرّ منه إلى من يجيره، وتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال نذير قوم بأن ديارهم عرضة لغزو العدوّ فاستعمل المركَّب وهو ‏{‏فروا إلى الله‏}‏ في هذا التمثيل‏.‏

فالمواجه ب ‏{‏فرّوا إلى الله‏}‏ المشركون لأن المؤمنين قد فرّوا إلى الله من الشرك‏.‏

والفرار‏:‏ الهروب، أي سرعة مفارقة المكان تجنباً لأذىً يلحقه فيه فيعدي ب ‏(‏من‏)‏ الابتدائية للمكان الذي به الأذى يقال‏:‏ فَرَّ من بلد الوباء ومن الموت، والشيء الذي يؤذي، يقال‏:‏ فر من الأسد وفر من العدوّ‏.‏

وجملة ‏{‏إني لكم منه نذير مبين‏}‏ تعليل للأمر ب ‏{‏فروا إلى الله‏}‏ باعتبار أن الغاية من الإِنذار قصد السلامة من العقاب فصار الإِنذار بهذا الاعتبار تعليلاً للأمر بالفرار إلى الله، أي التوجه إليه وحده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ صفة ل ‏{‏نذير‏}‏ قدمت على الموصوف فصارت حالاً‏.‏

وحرف ‏(‏مِن‏)‏ للابتداء المجازي، أي مأمور له بأن أبلغكم‏.‏

وعطف ‏{‏ولا تجعلوا مع الله إلها آخر‏}‏ على ‏{‏ففروا إلى الله‏}‏ نهي عن نسبة الإِلهية إلى أحد غير الله‏.‏ فجمع بين الأمر والنهي مبالغة في التأكيد بنفي الضد لإِثبات ضده كقوله‏:‏ ‏{‏وأضل فرعون قومه وما هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 79‏]‏‏.‏

ومن لطائف فخر الدين أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني لكم منه نذير‏}‏ جَمع الرسولَ والمرسلَ إليهم والمرسِل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏

كلمة ‏{‏كذلك‏}‏ فصل خطاب تدل على انتهاء حديث والشروع في غيره، أو الرجوع إلى حديث قبله أتى عليه الحديث الأخير‏.‏ والتقدير‏:‏ الأمر كذلك‏.‏ والإِشارة إلى ما مضى من الحديث، ثم يورد بعده حديث آخر والسامع يردّ كُلاً إلى ما يناسبه، فيكون ما بعد اسم الإِشارة متصلاً بأخبار الأمم التي تقدم ذكرها من قوم لوط ومن عطف عليهم‏.‏

أُعقب تهديد المشركين بأن يحل بهم ما حلّ بالأمم المكذبين لرسل الله من قبلهم بتنظيرهم بهم في مقالهم، وقد تقدم ورود ‏{‏كذلك‏}‏ فصلاً للخطاب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏91‏)‏، فقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ فصل وجملة ‏{‏ما أتى الذين من قبلهم من رسول‏}‏ الآية مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏

ولك أن تجعل قوله‏:‏ ‏{‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم‏}‏ إلخ مبدأ استئناف عوداً إلى الإِنحاء على المشركين في قولهم المختلف بأنواع التكذيب في التوحيد والبعث وما يتفرع على ذلك‏.‏

واسم الإِشارة راجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنكم لفي قول مختلف‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 8‏]‏ الآية كما علمت هنالك، أي مثل قولهم المختلف قال الذين من قبلهم لما جاءتهم الرسل، فيكون قوله ‏{‏كذلك‏}‏ في محل حال وصاحب الحال ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏‏.‏

وعلى كلا الوجهين فالمعنى‏:‏ إن حال هؤلاء كحال الذين سبقوهم ممن كانوا مشركين أن يصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، أو مجنون فكذلك سيجيب هؤلاء عن قولك‏:‏ «فروا إلى الله ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر» بمثل جواب من قبلهم فلا مطمع في ارعوائهم عن عنادهم‏.‏

والمراد ب ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ الأمم المذكورة في الآيات السابقة وغيرهم، وضمير ‏{‏قبلهم‏}‏ عائد إلى مشركي العرب الحاضرين‏.‏

وزيادة ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من رسول‏}‏ للتنصيص على إرادة العموم، أي أن كل رسول قال فيه فريق من قومه‏:‏ هو ساحر، أو مجنون، أي قال بعضهم‏:‏ ساحر، وقال بعضهم‏:‏ مجنون، مثل قوم نوح دون السحر إذ لم يكن السحر معروفاً في زمانهم قالوا‏:‏ ‏{‏إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقد يجمعون القولين مثل قول فرعون في موسى‏.‏

وهذا العموم يفيد أنه لم يخْل قوم من الأقوام المذكورين إلا قالوا لرسولهم أَحَدَ القولين، وما حكي ذلك عن بعضهم في آيات أخرى بلفظه أو بمرادفه كقول قوم هود ‏{‏إن نقول إلا اعْتراك بعض آلهتنا بسوء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وأول الرسل هو نوح كما هو صريح الحديث الصحيح في الشفاعة‏.‏ فلا يرد أن آدم لم يكذبه أهله، وأن أنبياء بني إسرائيل مثل يوشع وأشعيا، لم يكذبهم قومهم، لأن الله قال‏:‏ ‏{‏من رسول‏}‏، والرسول أخص من النبي‏.‏

والاستثناء في ‏{‏إلا قالوا ساحر‏}‏ استثناء من أحوال محذوفة‏.‏

والمعنى‏:‏ ما أتى الذين من قبلهم من رسول في حال من أحوال أقوالهم إلا في حال قولهم‏:‏ ساحر أو مجنون‏.‏

والقصر المستفاد من الاستثناء قصر ادعائي لأن للأمم أقوالاً غير ذلك وأحوالاً أخرى، وإنما قُصروا على هذا اهتماماً بذكر هذه الحالة العجيبة من البهتان، إذ يرمون أعقل الناس بالجنون وأقومهم بالسحر‏.‏

وإسناد القول إلى ضمير الذين من قبل مشركي العرب الحَاضرين إسناد باعتبار أنه قول أكثرهم فإن الأمور التي تنسب إلى الأقوام والقبائل تجري على اعتبار الغالب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

الاستفهام مستعمل في التعجيب من تواطئهم على هذا القول على طريقة التشبيه البليغ، أي كأنهم أوصى بعضهم بعضاً بأن يقولوه‏.‏ فالاستفهام هنا كناية عن لاَزمه وهو التعجيب لأن شأن الأمر العجيب أن يسأل عنه‏.‏

والجملة استئناف بياني لأن تماثل هؤلاء الأمم في مقالة التكذيب يثير سؤال سائل عن مَنْشَإِ هذا التشابه‏.‏

وضمير ‏{‏تواصوا‏}‏ عائد إلى ما سبق من الموصول ومن الضمير الذي أضيف إليه قبلهم، أي أوصى بعضهم بعضاً حتى بلغت الوصية إلى القوم الحاضرين‏.‏ «

وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد على المصدر المأخوذ من فعل ‏{‏إلا قالوا ساحر أو مجنون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52‏]‏، أي أتواصوا بهذا القول‏.‏

وفعل الوصية يتعدى إلى الموصَى عليه بالباء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ إضراب عن مُفاد الاستفهام من التشبيه أو عن التواصي به، ببيان سبب التواطُؤ على هذا القول فإنه إذا ظهر السبب بطل العجب‏.‏ أي ما هو بتواصصٍ ولكنه تماثل في منشإ ذلك القول، أي سبب تماثل المقالة تماثل التفكير والدواعي للمقالة، إذ جميعُهم قوم طاغون، وأن طغيانهم وكبرياءهم يصدهم عن اتباع رسول يحسبون أنفسهم أعظم منه، وإذ لا يجدون وصمة يصمونه بها اختلقوا لتنقيصه عِلَلاً لا تدخل تحت الضبط وهي ادعاء أنه مجنون أو أنه ساحر، فاستووا في ذلك بعلة استوائهم في أسبابه ومعاذيره‏.‏

فضمير ‏{‏هم قوم طاعون‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏أتواصوا‏}‏‏.‏

وفي إقحام كلمة ‏{‏قوم‏}‏ إيذان بأن الطغيان راسخ في نفوسهم بحيث يكون من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ‏(‏54‏)‏ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلى قوله‏:‏ بل هم قوم طاغون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52، 53‏]‏ لمشعر بأنهم بُعَدَاء عن أن تقنعهم الآياتُ والنذر فتوَلَّ عنهم، أي أعرض عن الإِلحاح في جدالهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمانهم ويغتمّ من أجل عنادهم في كفرهم فكان الله يعاود تسليته الفيْنة بعد الفَيْنَة كما قال‏:‏ ‏{‏لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 127‏]‏، فالتولي مراد به هذا المعنى، وإلا فإن القرآن جاء بعد أمثال هذه الآية بدعوتهم وجِدالهم غير مرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون‏}‏ في سورة الصافات ‏(‏174 175‏)‏‏.‏

وفرع على أمره بالتولي عنهم إخباره بأنه لا لوم عليه في إعراضهم عنه وصيغ الكلام في صيغة الجملة الاسمية دون‏:‏ لا نلومك، للدلالة على ثبات مضمون الجملة في النفي‏.‏

وجيء بضمير المخاطب مسنداً إليه فقال‏:‏ فما أنت بملوم‏}‏ دون أن يقول‏:‏ فلا ملام عليك، أو نحوه للاهتمام بالتنويه بشأن المخاطب وتعظيمه‏.‏

وزيدت الباء في الخبر المنفي لتوكيد نفي أن يكون ملوماً‏.‏

وعطف ‏{‏وذكر‏}‏ على ‏{‏فتول عنهم‏}‏ احتراس كي لا يتوهم أحد أن الإِعراض إبطال للتذكير بل التذكير باققٍ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكَّر الناس بعد أمثال هذه الآيات فآمن بعض من لم يكن آمن من قبل، وليكون الاستمرار على التذكير زيادة في إقامة الحجة على المعرضين، ولئلا يزدادوا طغياناً فيقولوا‏:‏ ها نحن أولاء قد أفحمناه فكُفّ عما يقوله‏.‏

والأمر في ‏{‏وذكر‏}‏ مراد به الدوام على التذكير وتجديدُه‏.‏

واقتصر في تعليل الأمر بالتذكير على علة واحدة وهي انتفاع المؤمنين بالتذكير لأن فائدة ذلك محققة، ولإِظهار العناية بالمؤمنين في المقام الذي أُظهرت فيه قلة الاكتراث بالكافرين قال تعالى‏:‏ ‏{‏فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9 11‏]‏‏.‏

ولذلك فوصف المؤمنين يراد به المتصفون بالإِيمان في الحال كما هو شأن اسم الفاعل، وأما من سيُؤمِنْ فِعلته مطوية كما علمت آنفاً‏.‏

والنفع الحاصل من الذكرى هو رسوخ العلم بإعادة التذكير لما سمعوه واستفادة علم جديد فيما لم يسمعوه أو غفلوا عنه، ولظهور حجة المؤمنين على الكافرين يوماً فيوماً ويتكرر عجز المشركين عن المعارضة ووفرة الكلام المعجز‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ‏(‏57‏)‏‏}‏

الأظهر أن هذا معطوف على جملة ‏{‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52‏]‏ الآية التي هي ناشئة عن قوله‏:‏ ‏{‏ففروا إلى الله إلى ولا تجعلوا مع الله إلها آخر‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 50، 51‏]‏ عَطْفَ الغرض على الغرض لوجود المناسبة‏.‏

فبعد أن نظَّر حالهم بحال الأمم التي صممت على التكذيب من قبلهم أَعقبه بذكر شنيع حالهم من الانحراف عما خلقوا لأجله وغُرز فيهم‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ خبر مستعمل في التعريض بالمشركين الذين انحرفوا عن الفطرة التي خُلقوا عليها فخالفوا سنتها اتباعاً لتضليل المضلين‏.‏

والجن‏:‏ جنس من المخلوقات مستتر عن أعين الناس وهو جنس شامل للشياطين قال تعالى عن إبليس‏:‏ ‏{‏كان من الجن‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏‏.‏

والإِنس‏:‏ اسم جمععٍ واحدُه إنسي بياء النسبة إلى اسم جمعِه‏.‏

والمقصود من هذا الإِخبارِ هو الإِنس وإنما ذُكر الجن إدماجاً وستعرف وجه ذلك‏.‏

والاستثناء مفرغ من علل محذوفة عامة على طريقة الاستثناء المفرغ‏.‏

واللام في ‏{‏ليعبدون‏}‏ لام العلة، أي ما خلقتهم لعلة إلا علة عبادتهم إياي‏.‏ والتقدير‏:‏ لإِرادتي أن يعبدون، ويدل على هذا التقدير قوله في جملة البيان‏:‏ ‏{‏ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون‏.‏

وهذا التقدير يلاحظ في كل لاممٍ ترد في القرآن تعليلاً لفعللِ الله تعالى، أي ما أرضَى لوجودهم إلا أن يعترفوا لي بالتفرد بالإِلهية‏.‏

فمعنى الإِرادة هنا‏:‏ الرضى والمحبة، وليس معناها الصفةَ الإِلهية التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه على وفق العلم، التي اشتق منها اسمُه تعالى‏:‏ المريد لأن إطلاق الإِرادة على ذلك إطلاق آخر، فليس المراد هنا تعليل تصرفات الخلق الناشئة عن اكتسابهم على اصطلاح الأشاعرة، أو عن قُدرتهم على اصطلاح المعتزلة على تقارب ما بين الاصطلاحين لظهور أن تصرفات الخلق قد تكون مناقضة لإِرادة الله منهم بِمعنى الإِرادة الصفةِ، فالله تعالى خلق الناس على تركيب يقتضي النظر في وجود الإِله ويسوق إلى توحيده ولكن كسب الناس يجرّف أعمالهم عن المهيع الذي خلقوا لأجله، وأسبابُ تمكُّنِهم من الانحراف كثيرة راجعة إلى تشابك الدواعي والتصرفات والآلات والموانع‏.‏

وهذا يغني عن احتمالات في تأويل التعليل من قوله‏:‏ ليعبدون‏}‏ من جعل عموم الجن والإِنس مخصوصاً بالمؤمنين منهم، أو تقديرِ محذوف في الكلام، أي إلا لآمُرهم بعبادتي، أو حَمل العبادة بمعنى التذلل والتضرع الذي لا يخلو منه الجميع في أحوال الحاجة إلى التذلل والتضرع كالمرض والقحط وقد ذكرهَا ابن عطية‏.‏

ويرد على جميع تلك الاحتمالات أن كثيراً من الإِنس غير عابدٍ بدليل المشاهدة، وأن الله حكى عن بعض الجن أنهم غير عابدين‏.‏

ونقول‏:‏ إن الله خلق مخلوقات كثيرة وجعل فيها نظماً ونواميس فاندفع كلُّ مخلوق يعمل بما تدفعه إليه نواميس جبلته، فقد تعُود بعض المخلوقات على بعض بنقض ما هُيِّءُ هُوَ لَه ويعود بعضها على غيره بنقض ما يسعى إليه، فتشابكت أحوال المخلوقات ونواميسها، فربما تعاضدت وتظاهرت وربما تناقضت وتنافرت فحدثت من ذلك أحوال لا تُحصى ولا يحاط بها ولا بطرائقها ولا بعواقبها، فكثيراً ما تسفر عن خلاف ما أُعدّ له المخلوق في أصل الفطرة فلذلك حاطها الله بالشرائع، أي فحصل تناقض بين الأمر التكويني والأمر التشريعي‏.‏

ومعنى العبادة في اللغة العربية قبل حدوثثِ المصطلحات الشرعية دقيق الدلالة، وكلمات أئمة اللغة فيه خفية والذي يُستخلص منها أنها إظهار الخضوع للمعبود واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضُرّه مِلكاً ذاتياً مستمراً، فالمعبود إله للعابد كما حكى الله قول فرعون ‏{‏وقومهما لنا عابدون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 47‏]‏‏.‏

فالحصر المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ قصرُ علةِ خلق الله الإِنسَ والجنَّ على إرادته أن يعبدوه، والظاهر أنه قصر إضافي وأنه من قبيل قصر الموصوف على الصفة، وأنه قصر قلب باعتبار مفعول ‏{‏يعبدون‏}‏، أي إلا ليعبدوني وحدي، أي لا ليشركوا غيري في العبادة، فهو ردّ للإِشراك، وليس هو قصراً حقيقياً فإنا وإن لم نطلع على مقادير حِكَم الله تعالى من خَلق الخلائق، لكنَّا نعلم أن الحكمة من خلقهم ليست مُجردَ أن يعبدوه، لأن حِكَم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا نُحيط بها، وذكر بعضها كما هنا لما يقتضي عدم وجود حكمة أخرى، ألاَ ترى أن الله ذكر حِكماً للخلق غير هذه كقوله‏:‏ ‏{‏ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118، 119‏]‏ بَلْهَ ما ذكره من حكمة خلق بعض الإِنس والجن كقوله في خلق عيسى ‏{‏ولنجعله آية للناس ورحمة منا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 21‏]‏‏.‏

ثم إن اعتراف الخلققِ بوحدانية الله يَقْشَع تكذيبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم ما كذَّبوه إلا لأنه دعاهم إلى نبذ الشرك الذي يزعمون أنه لا يسع أحداً نبذُه، فإذا انقشع تكذيبهم استتبع انقشاعُه امتثالَ الشرائع التي يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم إذا آمنوا بالله وحده أطاعوا ما بلَّغهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فهذا معنى تقتضيه عبادةُ الله بدلالة الالتزام، وذلك هو ما سُمي بالعبادة بالإطلاق المصطلح عليه في السُنَّة في نحو قوله‏:‏ «أن تعبد اللَّه كأنك تراه» وليس يليق أن يكون مراداً في هذه الآية لأنه لا يطرد أن يكون علةً لخلق الإنسان فإن التكاليف الشرعية تظهر في بعض الأمم وفي بعض العصور وتتخلف في عصور الفترات بين الرسل إلى أن جاء الإِسلام، وأحسب أن إطلاق العبادة على هذا المعنى اصطلاح شرعي وإنْ لم يرد به القرآن لكنه ورد في السنة كثيراً وأصبح متعارفاً بين الأمة من عهد ظهور الإِسلام‏.‏

وأن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا صلاحَهم العاجل والآجل وحصولَ الكمال النفساني بذلك الصلاح، فلا جَرم أَنَّ الله أراد من الشرائع كمال الإِنسان وضبطَ نظامه الاجتماعي في مختِلف عصوره‏.‏

وتلك حكمة إنشائه، فاستتبع قولُه‏:‏ ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏ أنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي، فعبادة الإِنسان ربَّه لا تخرج عن كونها محقِّقة للمقصد من خَلقه وعلَّةً لحصوله عادةً‏.‏

وعن مجاهد وزيد بن أسلم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏ بمعنى‏:‏ إلاّ لآمرهم وأنهاهم‏.‏ وتَبع أبو إسحاق الشاطبي هذا التأويل في النوع الرابع من كتاب المقاصد من كتابه عنوان التعريف «الموافقات» وفي محمل الآية عليه نظر قد علمتَه فحققْهُ‏.‏

وما ذكر الله الجن هنا إلا لتنبيه المشركين بأن الجن غير خارجين عن العبودية لله تعالى‏.‏ وقد حكى الله عن الجن في سورة الجن قول قائلهم‏:‏ ‏{‏وأنه كان يقول سفيهنا على اللَّه شططاً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وتقديم الجن في الذكر في قوله‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ للاهتمام بهذا الخبر الغريب عند المشركين الذين كانوا يعبدون الجن، ليعلموا أن الجن عباد لله تعالى، فهو نظير قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون‏}‏ تقرير لمعنى ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏ بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئاً يصنعونه أو يتخذونه، فإن المعروف في العرف أن من يتخذ شيئاً إنما يتخذه لنفع نفسه، وليست الجملة لإِفادة الجانب المقصور دُونَه بصيغة القصر لأن صيغة القصر لا تحتاج إلى ذكر الضد‏.‏ ولا يَحسن ذكر الضد في الكلام البليغ‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون‏}‏ كناية عن عدم الاحتياج إليهم لأن أشد الحاجات في العرف حاجة الناس إلى الطعام واللباس والسكن وإنما تحصل بالرزق وهو المال، فلذلك ابتدئ به ثم عطف عليه الإِطعام، أي إعطاء الطعام لأنه أشد ما يحتاج إليه البشر، وقد لا يَجده صاحب المال إذا قحط الناس فيحتاج إلى من يسلفه الطعامَ أو يُطعمه إياه، وفي هذا تعريض بأهل الشرك إذ يُهدون إلى الأصنام الأموال والطعام تتلقاه منهم سدنة الأصنام‏.‏

والرزق هنا‏:‏ المال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فابتغوا عند الله الرزق‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللَّه‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏، ويطلق الرزق على الطعام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 62‏]‏ ويمنع من إرادته هنا عطف ‏{‏وما أريد أن يطعمون‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ‏(‏58‏)‏‏}‏

تعليل لجملتي ‏{‏ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 57‏]‏ و‏{‏الرزق‏}‏ هنا بمعنى ما يعمّ المال والإِطعام‏.‏

والرزاق‏:‏ الكثير الإِرزاق، والقوةُ‏:‏ القدرة‏.‏

وذو القوة‏:‏ صاحب القدرة‏.‏ ومن خصائص ‏(‏ذو‏)‏ أن تضاف إلى أمر مهم، فعلم أن القوة هنا قوة خلية من النقائص‏.‏

والمتين‏:‏ الشديد، وهو هنا وصف لذي القوة، أي الشديد القوة، وقد عدّ ‏{‏المتين‏}‏ في أسمائه تعالى‏.‏ قال الغزالي‏:‏ وذلك يرجع إلى معاني القدرة‏.‏ وفي «معارج النور» شرح الأسماء «المتينُ‏:‏ كمال في قوته بحيث لا يعارض ولا يُدانَى»‏.‏

فالمعنى أنه المستغني غنىً مطلقاً فلا يحتاج إلى شيء فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران باتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة في قوله‏:‏ ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وإظهار اسم الجلالة في ‏{‏إن الله هو الرزاق‏}‏ إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضاه‏:‏ إني أَنا الرزاق، فعدل عن الإِضمار إلى الاسم الظاهر لتكون هذه الجملة مستقلة بالدلالة لأنها سُيرت مسِير الكلام الجامع والأمثال‏.‏

وحذفت ياء المتكلم من ‏{‏يعبدون‏}‏ و‏{‏يطعمون‏}‏ للتخفيف، ونظائره كثيرة في القرآن‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين‏}‏ طريق قصر لوجود ضمير الفصل، أي‏:‏ لا رَزَّاق، ولا ذا قوة، ولا متين إلا الله وهو قصر إضافي، أي دون الأصنام التي يعبدونها‏.‏

فالقصر قصر إفراد بتنزيل المشركين في إشراكهم أصنامهم بالله منزلة من يدعي أن الأصنام شركاء لله في صفاته التي منها‏:‏ الإِرزاق، والقوة، والشدة، فأبطل ذلك بهذا القصر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين تعبدون من دون اللَّه لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند اللَّه الرزق واعبدوه‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏59‏)‏‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ باعتبار أن المقصود من سياقه إبطال عبادتهم غير الله، أي فإذا لم يفردني المشركون بالعبادة فإن لهم ذَنوباً مثل ذَنوب أصحابهم، وهو يلمح إلى ما تقدم من ذكر ما عوقبت به الأمم السالفة من قوله‏:‏ ‏{‏قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا قوماً فاسقين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 32 46‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ فإذ ماثلهم الذين ظلموا فإن لهم نصيباً عظيماً من العذاب مثل نصيب أولئك‏.‏

والذين ظلموا‏:‏ الذين أشركوا من العرب، والظلم‏:‏ الشرك بالله‏.‏

والذنوب بفتح الذال‏:‏ الدلو العظيمة يستقي بها السُّقاة على القليب كما ورد في حديث الرؤيا ‏"‏ ثم أخذها أبو بكر ففزع ذنوباً أو ذنوبين ‏"‏ ولا تسمى ذنوباً إلا إذا كانت ملأى‏.‏

والكلام تمثيل لهيئة تساوي حظ الذين ظلموا من العرب بحُظوظ الذين ظلموا من الأمم السالفة بهيئة الذين يستقون من قليب واحد إذ يتساوون في أنصبائهم من الماء، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، وأطلق على الأمم الماضية اسم وصف أصحاب الذين ظلموا باعتبار الهيئة المشبه بها إذ هي هيئة جماعات الوِرد يكونون متصاحبين‏.‏

وهذا التمثيل قابل للتوزيع بأنه يشبّه المشركون بجماعة وردت على الماء، وتُشبه الأمم الماضية بجماعة سبقتهم للماء، ويُشبه نصيب كل جماعة بالدلو التي يأخذونها من الماء‏.‏

قال علقمة بن عَبْدة يمدح الملكَ الحارثَ بن أبي شَمِر، ويشفع عنده لأخيه شأسٍ بن عبدة وكان قد وقع في أسره مع بني تميم يوم عَين أباغ‏:‏

وفي كل حي قد خَبَطْتَ بَنعمة *** فحُقَّ لشَأْسسٍ من نَداك ذَنوب

فلما سمعه الملك قال‏:‏ «نعم وأَذنبة» وأطلق له أخاه شأس بن عبدة ومن معه من أسرى تميم، وهذا تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود‏:‏ أن يسمعه المشركون فهو تعريض، وبهذا الاعتبار أكد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ لأنهم كانوا مكذبين بالوعيد، ولذلك فرع على التأكيد قوله‏:‏ ‏{‏فلا يستعجلون‏}‏ لأنهم كانوا يستعجلون بالعذاب استهزاء وإشعاراً بأنه وعد مكذوب فهم في الواقع يستعجلون الله تعالى بوعيده‏.‏

وعدّي الاستعجال إلى ضمير الجلالة وهم إنما استعجلوه النبي صلى الله عليه وسلم لإِظهار أن النبي صلى الله عليه وسلم مخبر عن الله تعالى توبيخاً لهم وإنذاراً بالوعيد‏.‏ وحذفت ياء المتكلم للتخفيف‏.‏

والنهي مستعمل في التهكم إظهاراً لغضب الله عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

فرع على وعيدهم إنذار آخر بالويل، أو إنشاءُ زَجر‏.‏

والويل‏:‏ الشر وسوء الحال، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فويل لهم مما كتبت أيديهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏79‏)‏، وتنكيره للتعظيم‏.‏

والكلام يحتمل الإِخبار بحصول ويل، أي عذاب وسوء حال لهم يوم أوعدوا به، ويحتمل إنشاء الزجر والتعجيب من سوء حالهم في يَوم أُوعدوه‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ للابتداء المجازي، أي سوء حال بترقبهم عذاباً آتياً من اليوم الذي أوعدوه‏.‏

والذين كفروا‏:‏ هم الذين ظلموا، عدل عن ضميرهم إلى الاسم الظاهر لما فيه من تأكيد الاسم السابق تأكيداً بالمرادف، مع ما في صفة الكفر من الإِيماء إلى أنهم لم يشكروا نعمة خالقهم‏.‏

واليوم الذي أوعدوه هو زمن حلول العذاب فيحتمل أن يراد يوم القيامة ويحتمل حلول العذاب في الدنيا، وأيًّا مَّا كان فمضمون هذه الجملة مغاير لمضمون التي قبلها‏.‏

وإضافة ‏(‏يوم‏)‏ إلى ضميرهم للدلالة على اختصاصه بهم، أي هو معيّن لجزائهم كما أضيف يوم إلى ضمير المؤمنين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏ واليوم‏:‏ يصدق بيوم القيامة، ويصدق بيوم بدر الذي استأصل الله فيه شوكتهم‏.‏

ولما كان المضاف إليه ضمير الكفار المعينين وهم كفار مكة ترجح أن يكون المراد من هذا اليوم يوماً خاصاً بهم وإنما هو يوم بدر لأن يوم القيامة لا يختص بهم بل هو عام لكفار الأمم كلهم بخلاف اليوم الذي في قوله في سورة الأنبياء ‏(‏103‏)‏‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏ لأن ضمير الخطاب فيها عائد إلى ‏{‏الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ كلهم‏.‏

وفي الآية من اللطائف تمثيل ما سيصيب الذين كفروا بالذنوب، والذنوب يناسب القليب وقد كان مثواهم يوم بدر قليبَ بدر الذي رُميت فيه أشلاء سادتهم وهو اليوم القائل فيه شداد بن الأسود الليثي المكنَّى أبا بكر يرثي قتلاهم‏:‏

وماذا بالقليببِ قليببِ بدر *** من الشيزى تُزيَّن بالسَّنَام

تحيّى بالسلامة أمّ بكر *** وهل لي بعد قومي من سَلام

ولعلّ هذا مما يشمل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف على القليب يوم بدر ‏{‏قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏من يومهم الذي يوعدون‏}‏ مع قوله في أول السورة ‏{‏إن ما توعدون لصادق‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 5‏]‏ ردّ العجز على الصدر، ففيه إيذان بانتهاء السورة وذلك من براعة المقطع‏.‏

سورة الطور

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالطُّورِ ‏(‏1‏)‏ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ‏(‏2‏)‏ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ‏(‏3‏)‏ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ‏(‏4‏)‏ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ‏(‏5‏)‏ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

القَسَم للتأكيد وتحقيق الوعيد‏.‏ ومناسبة الأمور المقسم بها للمقسم عليه أن هذه الأشياء المقسم بها من شؤون بعثه موسى عليه السلام إلى فرعون وكان هلاك فرعون ومن معه من جراء تكذيبهم موسى عليه السلام‏.‏

و ‏{‏الطور‏}‏‏:‏ الجبل باللغة السريانيّة قاله مجاهد‏.‏ وأدخل في العربية وهو من الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن‏.‏

وغلب علَماً على طور سينا الذي ناجى فيه موسى عليه السلام، وأنزل عليه فيه الألواح المشتملة على أصول شريعة التوراة‏.‏

فالقسم به باعتبار شرفه بنزول كلام الله فيه ونزول الألواح على موسى وفي ذكر الطور إشارة إلى تلك الألواح لأنها اشتهرت بذلك الجبل فسميت طور المعرّب بتوراة‏.‏

وأما الجبل الذي خوطب فيه موسى من جانب الله فهو جبل حُوريب واسمه في العربية ‏(‏الزّبير‏)‏ ولعله بجانب الطور كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آنس من جانب الطور ناراً‏}‏ وتقدم بيانه في سورة القصص ‏(‏29‏)‏، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورفعنا فوقكم الطور‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏63‏)‏‏.‏

والقَسَم بالطور توطئة للقسم بالتوراة التي أنزل أولها على موسى في جبل الطور‏.‏

والمراد ‏{‏بكتاب مسطور في رَقّ منشور‏}‏ التوراةُ كلها التي كتبها موسى عليه السلام بعد نزول الألواح، وضمَّنها كل ما أوحَى الله إليه مما أمر بتبليغه في مدة حياته إلى ساعات قليلة قبل وفاته‏.‏ وهي الأسفار الأربعة المعروفة عند اليهود‏:‏ سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر العَدد، وسفر التثنية، وهي التي قال الله تعالى في شأنها‏:‏ ‏{‏ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏154‏)‏‏.‏

وتنكير كتاب‏}‏ للتعظيم‏.‏ وإجراء الوصفين عليه لتمييزه بأنه كتاب مشرف مراد بقاؤه مأمور بقراءته إذ المسطور هو المكتوب‏.‏ والسطر‏:‏ الكتابة الطويلة لأنها تجعل سطوراً، أي صفوفاً من الكتاب قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يسطرون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1‏]‏، أي يكتبون‏.‏

والرَّق ‏(‏بفتح الراء بعدها قاف مشددة‏)‏ الصحيفة تُتّخذ من جلد مرقق أبيض ليكتب عليه‏.‏ وقد جمعها المتلمِس في قوله‏:‏

فكأنما هِي مِن تقادُممِ عهدها *** رَقّ أُتيح كتابُها مسطور

والمنشور‏:‏ المبسوط غير المطوي قال يزيد بن الطثرية‏:‏

صحائف عندي للعتاب طويتُها *** ستنشر يوماً مَا والعتاب يطول

أي‏:‏ أقسم بحال نشره لقراءته وهي أشرف أحواله لأنها حالة حصول الاهتداء به للقارئ والسامع‏.‏

وكان اليهود يكتبون التوراة في رقوق ملصق بعضها ببعض أو مخيط بعضها ببعض، فتصير قطعة واحدة ويطوونها طيّاً اسطوانياً لتحفظ فإذا أرادوا قراءتها نشروا مطويها، ومنه ما في حديث الرجم «فنشروا التوراة»‏.‏ وليس المراد بكتاب مسطور القرآن لأن القرآن لم يكن يومئذٍ مكتوباً سطوراً ولا هو مكتوباً في رَق‏.‏

ومناسبة القسم بالتوراة أنها الكتاب الموجود الذي فيه ذكر الجزاء وإبطال الشرك وللإِشارة إلى أن القرآن الذي أنكروا أنه من عند الله ليس بدعاً فقد نزلت قبله التوراة وذلك لأن المقْسَم عليه وقوع العذاب بهم وإنما هو جزاء على تكذيبهم القرآن ومن جاء به بدليل قوله بعد ذكر العذاب

‏{‏فويل يومئذٍ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 11، 12‏]‏‏.‏

والقسم بالتوراة يقتضي أن التوراة يومئذٍ لم يكن فيها تبديل لما كتبه موسى‏:‏ فإمّا أن يكون تأويل ذلك على قول ابن عباس في تفسير معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحرفون الكلم عن مواضعه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏ أنه تحريف بسوء فهم وليس تبديلاً لألفاظ التوراة، وإمّا أن يكون تأويله أن التحريف وقع بعد نزول هذه السورة حين ظهرت الدعوة المحمدية وجَبَهت اليهودَ دلالةُ مواضع من التوراة على صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو يكون تأويله بأن القسم بما فيه من الوحي الصحيح‏.‏

والبيت المعمور‏:‏ عن الحسن أنه الكعبة وهذا الأنسب بعطفه على الطور، ووصفه ب ‏{‏المعمور‏}‏ لأنه لا يخلو من طائف به، وعمران الكعبة هو عمرانها بالطائفين قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يعمر مساجد اللَّه من آمن باللَّه واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏ الآية‏.‏

ومُناسبة القسم سبق القسم بكتاب التوراة فعقب ذلك بالقسم بمواطن نزول القرآن فإن ما نزل به من القرآن أنزل بمكة وما حولها مثل جبل حِراء‏.‏ وكان نزوله شريعة ناسخة لشريعة التوراة، على أن الوحي كان ينزل حَول الكعبة‏.‏ وفي حديث الإِسراء ‏"‏ بينا أنا نائم عند المسجد الحرام إذ جاءني الملكان ‏"‏ الخ، فيكون توسيط القسم بالكعبة في أثناء ما أقسم به من شؤون شريعة موسى عليه السلام إدماجاً‏.‏

وفي «الطبري»‏:‏ أن علياً سئل‏:‏ ما البيت المعمور‏؟‏ فقال‏:‏ «بيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبداً، يقال‏:‏ له الضُراح» ‏(‏بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وحاء مهملة‏)‏، وأن مجاهداً والضحاك وابن زيد قالُوا مثل ذلك‏.‏ وعن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ هل تدرون ما البيت المعمور‏؟‏ قال‏:‏ فإنه مسجد في السماء تحته الكعبة ‏"‏ إلى آخر الخبر‏.‏ وثمة أخبار كثيرة متفاوتة في أن في السماء موضعاً يقال له‏:‏ البيت المعمور، لكن الروايات في كونه المرادَ من هذه الآية ليست صريحة‏.‏

وأما السقف المرفوع‏:‏ ففسروه بالسماء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 32‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والسماء رفعها‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 7‏]‏ فالرفع حقيقي ومناسبة القسَم بها أنها مصدر الوحي كله التوراة والقرآن‏.‏ وتسمية السماء على طريقة التشبيه البليغ‏.‏

والبحر‏:‏ يجوز أن يراد به البحر المحيط بالكرة الأرضية‏.‏ وعندي‏:‏ أن المراد بحر القلزم، وهو البحر الأحمر ومناسبة القَسَم به أنه به أُهلك فرعون وقومه حين دخله موسى وبنو إسرائيل فلحق بهم فرعون‏.‏

و ‏{‏المَسجور‏}‏‏:‏ قيل المملوءُ، مشتقاً من السَّجر، وهم الملء والإِمداد‏.‏ فهو صفة كاشفة قصد منها التذكير بحال خلق الله إياه مملوءاً ماء دون أن تملأه أودية أو سيول، أو هي للاحتراز عن إرادة الوادي إذ الوادي ينقص فلا يبقى على ملئه وذلك دال على عظم القدرة‏.‏

والظاهر عندي‏:‏ أن وصفه بالمسجور للإِيماء إلى الحالة التي كان بها هلاك فرعون بعد أن فَرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل ثم أسجره، أي أفاضه على فرعون وملئه‏.‏

وعذاب الله المُقْسَم على وقوعه هو عذاب الآخرة لقوله‏:‏ ‏{‏يوم تمور السماء موراً إلى قوله‏:‏ تكذبون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 9 14‏]‏‏.‏ وأما عذاب المكذبين في الدنيا فسيجيء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وتحقيق وقوع عذاب الله يوم القيامة إثبات للبعث بطريق الكناية القريبة، وتهديد للمشركين بطريق الكناية التعريضية‏.‏

والواوات التي في هذه الآية كلها واوات قسم لأن شأن القسم أن يعاد ويكرر، ولذلك كثيراً ما يُعيدون المقسم به نحو قول النابغة‏:‏

والله والله لنعم الفتى ***

وإنما يعطفون بالفاء إذا أرادُوا صفات المقسم به‏.‏

ويجوز صرف الواو الأولى للقسم واللاتي بعدها عاطفات على القسم، والمعطوف على القسم قسم‏.‏

والوقوع‏:‏ أصله النزول من علوّ واستعمل مجازاً للتحقق وشاع ذلك، فالمعنى‏:‏ أن عذاب ربك لمتحقق‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏لواقع‏}‏، وتقديره‏:‏ على المكذبين، أو بالمكذبين، كما دل عليه قوله بعدُ ‏{‏فويل يومئذ للمكذبين‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 11‏]‏، أي المكذبين بك بقرينة إضافة رب إلى ضمير المخاطب المشعر بأنه معذبهم لأنه ربك وهم كذّبُوك فقد كذبوا رسالة الرب‏.‏ وتضمن قوله‏:‏ ‏{‏إن عذاب ربك لواقع‏}‏ إثبات البعث بعد كون الكلام وعيداً لهم على إنكار البعث وإنكارهم أن يكونوا معذبين‏.‏

وأتبع قوله‏:‏ ‏{‏لواقع‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏ما له من دافع‏}‏، وهو خبر ثان عن ‏{‏عذاب‏}‏ أو حال منه، أي‏:‏ ما للعذاب دافع يدفعه عنهم‏.‏

والدفع‏:‏ إبعاد الشيء عن شيء باليد وأطلق هنا على الوقاية مجازاً بعلاقة الإِطلاق ألا يقيهم من عذاب الله أحد بشفاعة أو معارضة‏.‏

وزيدت ‏{‏من‏}‏ في النفي لتحقيق عموم النفي وشموله، أي نفي جنس الدافع‏.‏

روى أحمد بن حنبل عن جبير بن مطعم قال‏:‏ «قدمت المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُكلمه في أُسارى بدر فدُفعت إليه وهو يصلِّي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ ‏{‏والطور‏}‏ إلى ‏{‏إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع‏}‏ فكأنما صُدع قلبي»، وفي رواية «فأسلمت خوفاً من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ‏(‏9‏)‏ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

يجوز أن يتعلق ‏{‏يوم تمور السماء‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏لواقع‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 7‏]‏ على أنه ظرف له فيكون قوله‏:‏ ‏{‏فويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ تفريعاً على الجملة كلها ويكون العذاب عذاب الآخرة‏.‏

ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله‏:‏ ‏{‏إن عذاب ربك لواقع‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 7‏]‏، فيكون ‏{‏يوم‏}‏ متعلقاً بالكون الذي بين المبتدأ والخبر في قوله‏:‏ ‏{‏فويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ وقدم الظرف على عامله للاهتمام، فلما قدم الظرف اكتسب معنى الشرطية وهو استعمال متبع في الظروف والمجرورات التي تُقدم على عواملها فلذلك قرنت الجملة بعده بالفاء على تقدير‏:‏ إن حَلَّ ذلك اليوم فويل للمكذبين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يومئذٍ‏}‏ على هذا الوجه أريد به التأكيد للظرف فحصل تحقيق الخبر بطريقين طريق المجازاة، وطريق التأكيد في قوله‏:‏ ‏{‏يوم تمور السماء موراً‏}‏ الآية، تصريح بيوم البعث بعد أن أشير إليه تضمناً بقوله‏:‏ ‏{‏إن عذاب ربك لواقع‏}‏ فحصل بذلك تأكيده أيضاً‏.‏

والمور بفتح الميم وسكون الواو‏:‏ التحرك باضطراب، ومور السماء هو اضطراب أجسامها من الكواكب واختلال نظامها وذلك عند انقراض عالم الحياة الدنيا‏.‏

وسيْر الجبال‏:‏ انتقالها من مواضعها بالزلازل التي تحدث عند انقراض عالم الدنيا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 1 6‏]‏‏.‏

وتأكيد فعلي ‏{‏تمور‏}‏ و‏{‏تسير‏}‏ بمصدري ‏{‏مَوْراً‏}‏ و‏{‏سَيْراً‏}‏ لرفع احتمال المجاز، أي هو مور حقيقي وتنقل حقيقي‏.‏

والويل‏:‏ سوء الحال البالغ منتهى السوء، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏79‏)‏ وتقدم قريباً في آخر الذاريات‏.‏

والمعنى‏:‏ فويل يومئذٍ للذين يكذبون الآن‏.‏ وحذف متعلق للمكذبين لعلمه من المقام، أي الذين يكذبون بما جاءهم به الرسول من توحيد الله والبعث والجزاء والقرآن فاسم الفاعل في زمن الحال‏.‏

والخوض‏:‏ الاندفاع في الكلام الباطل والكذب‏.‏ والمراد خوضهم في تكذيبهم بالقرآن مثل ما حكى الله عنهم‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية وهي الملابسة الشديدة كملابسة الظرف للمظروف، أي الذين تمكن منهم الخوض حتى كأنه أحاط بهم‏.‏

و ‏{‏يلعبون‏}‏ حاليّة‏.‏ واللعب‏:‏ الاستهزاء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أباللَّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 65‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ‏(‏13‏)‏ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏14‏)‏ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏15‏)‏ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏يوم يدعون‏}‏ بدل من ‏{‏يوم تمور السماء موراً‏}‏ وهو بدل اشتمال‏.‏

والدعّ‏:‏ الدفع العنيف، وذلك إهانة لهم وغلظة عليهم، أي يوم يساقون إلى نار جهنم سَوقاً بدفع، وفيه تمثيل حالهم بأنهم خائفون متقهقرون فتدفعهم الملائكة الموكلون بإزجائهم إلى النار‏.‏

وتأكيد ‏{‏يدعون‏}‏ ب ‏{‏دعّاً‏}‏ لتوصل إلى إفادة تعظيمه بتنكيره‏.‏

وجملة ‏{‏هذه النار‏}‏ إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه السياق‏.‏ والقول المحذوف يقدر بما هو حال من ضمير ‏{‏يدعون‏}‏‏.‏ وتقديره‏:‏ يقال لهم، أو مقولاً لهم، والقائل هم الملائكة الموكلون بإيصالهم إلى جهنم‏.‏ والإِشارة بكلمة ‏{‏هذه‏}‏ الذي هو للمشار إليه القريب المؤنث تومئ إلى أنهم بلغوها وهم على شفاها، والمقصود بالإِشارة التوطئة لمَا سيرد بعدها من قوله‏:‏ ‏{‏التي كنتم بها تكذبون‏}‏ إلى ‏{‏لا تبصرون‏}‏‏.‏

والموصول وصلته في قوله‏:‏ ‏{‏التي كنتم بها تكذبون‏}‏ لتنبيه المخاطبين على فساد رأيهم إذ كذبوا بالحشر والعقاب فرأوا ذلك عياناً‏.‏

وفرع على هذا التنبيه تنبيه آخر على ضلالهم في الدنيا بقوله‏:‏ ‏{‏أفسحر هذا‏}‏ إذ كانوا حين يسمعون الإِنذار يوم البعث والجزاء يقولون‏:‏ هذا سحر، وإذا عرض عليهم القرآن قالوا‏:‏ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، فللمناسبة بين ما في صلة الموصول من معنى التوقيف على خطئهم وبين التهكّم عليهم بما كانوا يقولونه دخلت فاء التفريع وهو من جملة ما يقال لهم المحكي بالقول المقدر‏.‏

و ‏{‏أم‏}‏ منقطعة، والاستفهام الذي تقتضيه ‏{‏أم‏}‏ بعدها مستعمل في التوبيخ والتهكم‏.‏ والتقدير‏:‏ بل أأنتم لا تبصرون‏.‏

ومعنى ‏{‏لا تبصرون‏}‏‏:‏ لا تبصرون المرئيات كما هي في الواقع فلعلكم تزعمون أنكم لا ترون ناراً كما كنتم في الدنيا تقولون‏:‏ ‏{‏بيننا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ أي فلا نراك، وتقولون ‏{‏إنما سكرت أبصارنا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وجيء بالمسند إليه مخبراً عنه بخبر فعلي منفي لإِفادة تقوّي الحكم، فلذلك لم يقل‏:‏ أم لا تبصرون، لأنه لا يفيد تقوياً، ولا‏:‏ أم لا تبصرون أنتم، لأن مجيء الضمير المنفصل بعد الضمير المتصل يفيد تقرير المسند إليه المحكوم عليه بخلاف تقديم المسند إليه فإنه يفيد تأكيد الحكم وتقويته وهو أشد توكيداً، وكل ذلك في طريقة التهكم‏.‏

وجملة ‏{‏اصلوها‏}‏ مستأنفة هي بمنزلة النتيجة المترقبة من التوبيخ والتغليظ السابقين، أي ادخلوها فاصطلوا بنارها يقال‏:‏ صلي النار يصلاها، إذا قاسى حرها‏.‏

والأمر في ‏{‏اصلوها‏}‏ إمّا مكنًّى به عن الدخول لأن الدخول لها يستلزم الاحتراق بنارها، وإما مستعمل مجازاً في التنكيل‏.‏ وفرع على ‏{‏اصلوها‏}‏ أمر للتسوية بين صبرهم على حرّها وبين عدم الصبر وهو الجزع لأن كليهما لا يخففان عنهم شيئاً من العذاب، ألا ترى أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيض‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 21‏]‏ لأن جُرمَهم عظيم لا مطمع في تخفيف جزائه‏.‏

و ‏{‏سواء عليكم‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، تقديره‏:‏ ذلك سواء عليكم‏.‏

وجملة ‏{‏سواء عليكم‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏فاصبروا أو لا تصبروا‏}‏ فلذلك فصلت عنها ولم تعطف‏.‏

وجملة ‏{‏إنما تجزون ما كنتم تعملون‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏اصلوها‏}‏ إذ كلمة ‏{‏إنما‏}‏ مركبة من ‏(‏إنّ‏)‏ و‏(‏ما‏)‏ الكافة، فكما يصح التعليل ب ‏(‏إنّ‏)‏ وحدها كذلك يصح التعليل بها مع ‏(‏ما‏)‏ الكافة، وعليه فجملتا ‏{‏فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم‏}‏ معترضتان بين جملة ‏{‏اصلوها‏}‏ والجملة الواقعة تعليلاً لها‏.‏

والحصر المستفاد من كلمة ‏{‏إنما‏}‏ قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن ما لقوه من العذاب ظلم لم يستوجبوا مثل ذلك من شدة ما ظهر عليهم من الفزع‏.‏

وعدي ‏{‏تجزون‏}‏ إلى ‏{‏ما كنتم تعملون‏}‏ بدون الباء خلافاً لقوله بعده ‏{‏كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 19‏]‏ ليشمل القصر مفعول الفعل المقصور، أي تجزون مثل عملكم لا أكثر منه فينتفي الظلم عن مقدار الجزاء كما انتفى الظلم عن أصله، ولهذه الخصوصية لم يعلق معمول الفعل بالباء إذ جعل الجزاء بمنزلة نفس الفعل‏.‏